في تصعيد غير مسبوق على مستوى الخطاب الدبلوماسي، توعد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، اليوم الخميس، إيران باتخاذ “إجراءات انتقامية” إذا لم تتراجع عن اتهام اثنين من المواطنين الفرنسيين بالتجسس لصالح جهاز الموساد الإسرائيلي، في خطوة اعتبرتها باريس استفزازًا مباشرًا وعدوانًا لا يمكن القبول به.
ويأتي هذا التهديد الفرنسي بعد صدور تقرير رسمي يفيد بأن السلطات الإيرانية وجهت إلى كل من سيسيل كولر، البالغة من العمر أربعين عامًا، وجاك باريس، البالغ اثنين وسبعين عامًا، ثلاث تهم بالغة الخطورة، على رأسها التجسس لحساب إسرائيل، والتآمر لقلب نظام الحكم، و”الإفساد في الأرض”، وهي تهمة تُقابل في القانون الإيراني بعقوبة الإعدام.
ماكرون، في تصريحاته، أشار إلى أن هذا الملف لم يعد قضية إنسانية فحسب، بل بات يمس الأمن القومي الفرنسي وهيبة الدولة، معلنًا أنه سيفتح حوارًا مباشرًا مع الرئيس الإيراني الجديد، مسعود بزشكيان، لبحث الموقف، وإنذاره بعواقب مواصلة التصعيد القضائي بحق الفرنسييْن المحتجزين. وأوضح الرئيس الفرنسي أن بلاده لن تتأخر في الرد، واصفًا الاتهامات الإيرانية بأنها “خيار عدائي واستفزازي لا يقوم على أساس قانوني أو أخلاقي”.
السلطات الفرنسية، التي سبق أن طالبت مرارًا بالإفراج عن كولر وباريس منذ اعتقالهما في مايو 2022، أكدت مرارًا أن مواطنيها لم يكونا في إيران لأي غرض استخباراتي، بل كانا في زيارة ذات طابع اجتماعي ونقابي. غير أن إيران احتجزتهما آنذاك في ظروف غامضة، وامتنعت طويلاً عن توضيح الجهة التي يُزعم أنهما كانا يتجسسان لحسابها، حتى جاء الاتهام الصريح الأخير بارتباطهما بجهاز الموساد الإسرائيلي، في ما يُعد تصعيدًا خطيرًا في خطاب طهران.
المخاوف الفرنسية تضاعفت في الأسابيع الأخيرة بعد الأنباء عن تعرض سجن إيفين، المعروف باحتجاز المعتقلين السياسيين والأجانب، لقصف إسرائيلي مباشر في 23 يونيو الماضي، مما أسفر — وفق الرواية الإيرانية — عن مقتل 79 شخصًا، بينهم عدد من السجناء. ولم تعلن السلطات الإيرانية حتى الآن أسماء الضحايا أو تفاصيل عن السجناء الذين تم نقلهم من السجن بعد الهجوم، ما أثار تساؤلات خطيرة حول مصير كولر وباريس، خصوصًا مع الغموض الذي يكتنف مكان احتجازهما الحالي.
في مواجهة هذا التصعيد، اختارت فرنسا أن تجمع بين الضغط القانوني والدبلوماسي، فقد رفعت في مايو الماضي دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية، تتهم فيها إيران بانتهاك التزاماتها بموجب اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية، عبر حرمان المواطنين الفرنسيين من حقهم في التواصل مع ممثلي سفارتهم، ومن ظروف احتجاز لائقة، ومن محاكمة شفافة وعادلة.
لكن القضية لا تبدو معزولة عن السياق الإقليمي والدولي. فالعلاقات بين إيران والدول الغربية، وخصوصًا فرنسا، تشهد منذ أشهر حالة من التوتر الحاد، زادت حدّتها بعد سلسلة الضربات الإسرائيلية التي استهدفت مواقع نووية وعسكرية داخل إيران. وترى طهران أن الصمت الأوروبي — وعلى رأسه الفرنسي — تجاه هذه الهجمات يُعد تواطؤًا، أو في أحسن الأحوال تغاضيًا غير مقبول. وربما يكون استخدام ملف المعتقلين الأجانب إحدى أدوات الرد غير المباشر على ذلك.
وفي الوقت الذي تتجه فيه الأنظار إلى الكيفية التي سيتعامل بها الرئيس الإيراني الجديد مع هذه الأزمة الحساسة، يرى مراقبون أن الرد الفرنسي، في حال تأكد الحكم بالإعدام أو استمرار الاحتجاز القسري، قد يتجاوز الإطار الدبلوماسي، ليشمل عقوبات اقتصادية أو خطوات قانونية جماعية على مستوى الاتحاد الأوروبي.
القضية إذًا لم تعد مجرد نزاع على خلفية اعتقال مواطنين، بل تحوّلت إلى اختبار مفتوح للعلاقات الفرنسية الإيرانية، ومدى قدرة البلدين على تجنّب الانزلاق نحو مواجهة أكثر حدة، في وقت يزداد فيه منسوب التوتر في الإقليم، وتتقلص فيه مساحات التفاهم بين طهران والعواصم الغربية.

