في عالم سريع التحوّل تقوده التكنولوجيا، تتصاعد المنافسة بين منصتي يوتيوب ونتفليكس بوتيرة غير مسبوقة، خصوصًا في مجال البث المباشر الذي بات يمثل إحدى أكثر ساحات الصراع حيوية وتأثيرًا. فبعد سنوات من تجاهل نتفليكس لأي تهديد جاد من المنافسين، بدأت تعترف أخيرًا بأن يوتيوب لم يعد مجرد منصة لمقاطع الفيديو القصيرة أو الترفيه العابر، بل تحوّل إلى منافس مباشر يُعيد رسم ملامح المشهد السمعي البصري.
بحسب تقرير نشرته صحيفة The New York Times، لم يعد كبار التنفيذيين في نتفليكس يترددون في الإقرار بتقدم يوتيوب وتحوّله إلى منصة تستهلك حصة متزايدة من وقت المشاهدة الجماهيري، خصوصًا في الولايات المتحدة. ففي شهر ماي 2025، بلغت حصة يوتيوب من وقت مشاهدة التلفزيون على الشاشات الأميركية نحو 12,5%، متفوقة بذلك على نتفليكس التي سجّلت 7,5% فقط، وذلك وفق بيانات صادرة عن مؤسسة Nielsen المتخصصة. ويشكّل هذا الفارق نقطة تحوّل بارزة، خاصة أن الفجوة قبل عامين لم تكن تتجاوز نصف نقطة مئوية لصالح يوتيوب، مما يدل على تغيرات عميقة في عادات المشاهدة واتجاهات الجمهور.
ورغم أن الشركتين تعملان في الفضاء نفسه، إلا أن لكل واحدة منهما نموذجًا مختلفًا تمامًا من حيث البنية والهدف. نتفليكس تتبع أسلوب الإنتاج التقليدي، حيث تقوم بتمويل الأعمال الدرامية والسينمائية والوثائقية بشكل كامل، وتدفع للمبدعين مقدمًا، محتفظة غالبًا بحقوق الملكية. أما يوتيوب، فتعتمد على نموذج أكثر انفتاحًا، إذ تتيح لأي شخص نشر محتواه الخاص وتحقيق دخل بناءً على الإعلانات والمشاهدات، في حين يحتفظ صانع المحتوى بملكيته الفكرية، الأمر الذي جعل من يوتيوب بيئة خصبة للمبدعين المستقلين والمواهب الصاعدة.
وبالنظر إلى الأرقام المالية، يظهر تفوق يوتيوب من حيث الإيرادات، إذ حققت المنصة ما يقدّر بـ 54 milliards de dollars خلال عام 2025، بينما بلغت عائدات نتفليكس 39 milliards في الفترة نفسها. إلا أن نتفليكس لا تزال تتقدم من حيث الأرباح التشغيلية التي وصلت إلى 10 milliards، في حين تشير تقديرات محللين إلى أن دخل يوتيوب التشغيلي بلغ حوالي 8 milliards.
على مستوى الجمهور، يتابع حوالي 7 ملايين شخص يوميًا محتوى يوتيوب على شاشات التلفاز، مقابل 4,7 ملايين لنتفليكس، وفق بيانات Nielsen. أما خلال ساعات الذروة، فتتقلص الفجوة، إذ يشاهد نحو 11,1 مليون أميركي محتوى يوتيوب مساءً، مقابل 10,7 ملايين يتابعون نتفليكس في التوقيت نفسه. من الجدير بالذكر أن هذه الأرقام لا تشمل المشاهدة على الهواتف والأجهزة اللوحية، ما يعني أن التأثير الفعلي لكل منصة قد يكون أكبر بكثير مما تعكسه البيانات التلفزيونية فقط.
ومع تعاظم التنافس، بدأت ملامح تقارب غير معلن بين الشركتين. فقد شرعت نتفليكس في التعاون مع صناع محتوى من يوتيوب، حيث حصلت على ترخيص لعرض برامج شهيرة كان لها حضور واسع على يوتيوب، من أبرزها برنامج الأطفال Miss Rachel الذي بدأ عرضه على نتفليكس في جانفي 2025، وحقق منذ ذلك الحين نجاحًا ملفتًا. كما تخوض نتفليكس مفاوضات مع عدد من أصحاب القنوات الناجحة على يوتيوب، بهدف استقطابهم وتوسيع قاعدة محتواها لتشمل فئات جديدة من الجمهور.
في المقابل، تراجعت يوتيوب عن محاولاتها السابقة للدخول إلى سوق الإنتاج التلفزيوني التقليدي، مفضّلة التركيز على نموذجها الأصلي الذي يمنحها مرونة أكبر في تقديم محتوى متنوع، يبدأ من الفيديوهات الترفيهية السريعة، مرورًا بالموسيقى، وانتهاءً بحلقات البودكاست المصورة التي باتت تستقطب جمهورًا واسعًا من مختلف الأعمار.
وفي ظل هذا التداخل المتزايد، يبدو أن كل منصة تسعى، بطريقتها الخاصة، إلى الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من انتباه المشاهدين، فالسباق اليوم لا يُقاس بعدد البرامج أو المسلسلات الناجحة، بل بقدرة المنصة على احتكار وقت المستخدم وتوجيه تجربته الرقمية. ومع استمرار تغيّر الأذواق ووسائل الوصول إلى المحتوى، من المرجّح أن تزداد المنافسة حدة في السنوات المقبلة، في وقت لم يعد فيه الجمهور وفيًا لمنصة واحدة، بل أصبح يوزّع ولاءه بين أكثر من فضاء رقمي، تبعًا لما يبحث عنه في لحظته الخاصة.
المصدر : صحف ومواقع أمريكية

