على بعد أمتار فقط من قطاع غزة المحاصر، حيث يتضور أكثر من مليونَي إنسان جوعًا وعطشًا، ويصارعون الموت تحت ركام الحصار والقصف، يعيش أكثر من 100 مليون مصري في الضفة الأخرى من الحدود، في واحدة من أكثر المفارقات إيلامًا في المشهد العربي الحديث.
رغم ما يجري في غزة من تجويع ممنهج، وجرائم حرب ترتكبها آلة الاحتلال الإسرائيلي أمام أعين العالم، فإن الشارع المصري يبدو صامتًا، مشلولًا عن التعبير، لا مظاهرات، لا احتجاجات، ولا حتى تحركات رمزية قرب معبر رفح أو سفارات الدول المتورطة في المأساة. صمت شعبي واسع يطرح أكثر من علامة استفهام حول حقيقة الموقف الشعبي المصري، وأسباب غيابه عن أي فعل تضامني ملموس مع غزة التي لا تبعد سوى بضعة كيلومترات.
على مدى عقود، كانت مصر تُعد عمقًا إستراتيجيًا للقضية الفلسطينية، وشعبها في طليعة الشعوب المتضامنة مع الفلسطينيين في محنهم، لكن الواقع الحالي يكشف تراجعًا حادًا في هذا الدور، لصالح صمتٍ ثقيل، عزاه البعض إلى القبضة الأمنية التي تمنع أي تحرك شعبي حرّ، وتلاحق كل صوت مخالف، بينما يربط آخرون هذا الغياب بتراجع الإحساس الجماعي بالقضايا القومية، وسط انشغال المصريين بأزماتهم المعيشية الداخلية.
غير أن هذه المبررات، مهما بدت واقعية، لا تخفي حجم المفارقة الأخلاقية والوجدانية: قطاع غزة، الجار الجريح، يختنق على مرأى ومسمع من شعب يُفترض أنه الأقرب إليه في التاريخ والجغرافيا والدم، لكن الحدود بقيت هادئة، ومواقف الغضب الشعبي غائبة.
اللافت أن هذا الصمت لا ينسحب فقط على التظاهرات، بل أيضًا على مستوى الضغط الشعبي والإعلامي لمطالبة الدولة المصرية بتخفيف الحصار أو فتح المعابر أو استقبال الجرحى والمصابين. بل إن النظام المصري، في ظل غياب الضغط الشعبي، يستمر في إغلاق معبر رفح بشكل متكرر، أو التحكم في وتيرة إدخال المساعدات، وسط اتهامات بالتواطؤ أو على الأقل بالتقصير.
ما يقع اليوم ليس فقط اختبارًا للنظام المصري، بل أيضًا امتحان لضمير الأمة، حيث يُفترض أن يكون الشعب هو صمّام الأمان حين تسقط المواقف الرسمية. لكن المشهد المصري يبدو رماديًا، تغيب فيه نبضات الغضب، أو تخنقها أدوات القمع، وسط تطبيع غير معلن مع الصمت.
إن غزة اليوم، لا تحتاج فقط إلى طعام وماء ودواء، بل تحتاج قبل ذلك إلى صوت، إلى احتجاج، إلى غضب صادق يتجاوز البيانات الباردة والرسائل الدبلوماسية. تحتاج إلى شوارع عربية تهتف باسمها، لا سيما في الجوار الأقرب: مصر.
ومع كل يوم يمر، يتسع الجرح الفلسطيني، ويتقلص الأمل في صحوة عربية تُعيد للكرامة معناها، وللتضامن الشعبي وزنه، فهل يتحرك الشارع المصري..؟ أم يستمر الصمت بوصفه العنوان الأبلغ للخذلان..؟
المصدر : new media tv

