في خضم تصاعد التوترات في الشرق الأوسط، نفذت الولايات المتحدة هجومًا جوّيًا وصف بأنه من الأكثر إثارة للجدل في السنوات الأخيرة، مستهدفة منشآت نووية إيرانية، أبرزها موقع “فوردو” شديد التحصين. ورغم التصريحات المتفائلة من دوائر أميركية عن “نجاح كامل”، فإن التحليلات الإستراتيجية، مدعومة بصور أقمار اصطناعية وشهادات خبراء، ترسم صورة أكثر تعقيدًا وتناقضًا مع هذا التفاؤل.
تحركات “غير طبيعية” وضربة محدودة العمق
أشارت صور الأقمار الصناعية التي نشرتها شركة “ماكسار” إلى نشاط مريب قبيل الضربة، تضمن حركة مركبات غير معتادة حول منشأة فوردو النووية. وبعد تنفيذ الضربة، أظهرت الصور أضرارًا سطحية في بعض البنى، لكن دون دلائل واضحة على اختراق التحصينات تحت الأرض أو حدوث انهيار هيكلي داخلي.
هذا النمط يوحي بأن الاستهداف كان موجهًا نحو البنية الفوقية للموقع، دون أن ينجح في تحييد القدرات النووية العميقة والمحمية.
تباين التصريحات: نجاح عسكري أم مبالغة سياسية؟
الرئيس الأميركي دونالد ترامب وصف العملية بأنها “ناجحة بشكل كامل”، مشيرًا إلى استخدام ذخائر دقيقة، منها قنبلة واحدة “أُزيلت” بعد تحقيق هدفها، بحسب تقديراته الأولية. لكن في المقابل، نفى مسؤولون إيرانيون وقوع أضرار مؤثرة، وأكدوا استمرار نشاط الموقع.
وفيما التزمت الوكالة الدولية للطاقة الذرية الحياد، أكدت عدم تسجيل أي تسرب إشعاعي من المواقع المستهدفة، ما يضعف فرضية تدمير البنية النووية الفاعلة.
البرنامج النووي.. بين الإبطاء والاستمرار
التقديرات الاستخبارية الغربية، بما فيها الإسرائيلية، لم تدّعِ نهاية البرنامج، بل أكدت على تأجيل تقدمه. فقد صرّح وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، بأن الضربة قد تؤخّر المشروع لعامين أو ثلاثة على الأكثر، دون أن تعني القضاء عليه نهائيًا.
صحف بارزة مثل “الغارديان” و”هآرتس” و”NBC” تحدثت عن “أضرار ملحوظة”، لكنها أكدت أن التحصينات العميقة بقيت دون اختراق. أما التحليل الاستباقي الذي نشرته “واشنطن بوست” قبل الضربة بأيام، فقد توقع هذا السيناريو، مستندًا إلى الطبيعة الجيولوجية المحصنة لموقع فوردو.
المعرفة لا تُقصف.. والرد قد يكون نوويًا
البرنامج النووي الإيراني لا يعتمد فقط على المنشآت، بل على بنية معرفية عريضة تضم آلاف العلماء والمختبرات والتقنيات المنتشرة جغرافيًا. ويؤكد الخبير النووي الأميركي ديفيد ألفرايت أن “الضربة لم تكن إستراتيجية حاسمة”، مشيرًا إلى أن المنشآت تحت الأرض لا تزال تعمل.
ويرى ماثيو بون، من مركز بلفر التابع لجامعة هارفارد، أن الضربات العسكرية قد تدفع إيران إلى خيار الردع النووي لا العكس، مما يزيد خطر التحول إلى برنامج أكثر سرية وأقل قابلية للمراقبة.
هل تدخل إيران مرحلة “الغموض النووي”؟
إذا كانت الضربة فشلت في تدمير القدرات الأساسية، فإنها قد تدفع إيران إلى إعادة تموضع تكتيكي، بل وربما الانسحاب من الالتزامات الدولية، وتغليف برنامجها النووي بهالة من الصمت والغموض. وهذا ما حذّر منه خبراء دوليون، مؤكدين أن الضغط العسكري المفرط قد يؤدي إلى نتائج عكسية، بتغليب منطق التصعيد على التفاوض.
الضربة الأميركية كانت موجعة، لكنها لم تكن قاضية.
البرنامج النووي الإيراني لم ينتهِ، بل أُبطئ مؤقتًا.
والأخطر أن إيران قد تكون بصدد الدخول في مرحلة “صمت نووي”، تتوارى فيها القدرات الحقيقية عن أنظار الرقابة الدولية.
إذًا، فالإعلان عن “نهاية البرنامج النووي الإيراني” هو في الحقيقة انتصار إعلامي مؤقت، لا نصرًا إستراتيجيًا دائمًا.

