لم تكن كلمات أنس الشريف، مراسل قناة الجزيرة في قطاع غزّة، مجرّد رسالة عابرة، بل كانت شهادة موثّقة على ثمن الحقيقة في زمن الحرب. في وصيته الأخيرة، التي كُشف عنها مساء يوم الإثنين 11 أوت 2025، كتب أنس بكل وضوح: “إن وصلتكم كلماتي هذه، فاعلموا أن إسرائيل قد نجحت في قتلي وإسكات صوتي”. بهذه العبارة، بدأ أنس رسالته الأخيرة، والتي كُشف عنها بعد استشهاده رفقة زميله محمد قريقع وعدد من المصورين، إثر قصف مباشر استهدف خيمة للصحفيين قرب مستشفى الشفاء وسط مدينة غزة.
في كلماته التي كتبت من قلب النار، أكد أنس أنّه لم يتردّد يومًا في أداء واجبه، وأنه لم يزوّر أو يُحرّف الحقيقة رغم ما عاشه من وجع وفقدان، قائلًا: “يعلم الله أنني بذلت كل ما أملك من جهدٍ وقوة لأكون سندًا وصوتًا لأبناء شعبي”. كانت هذه الوصية بمثابة تأكيد على إيمانه العميق بقضيته، وعلى التزامه المهني والإنساني بنقل الحقيقة مهما كان الثمن.
استشهاد أنس لم يكن حادثًا عرضيًا، بل جاء في سياق حملة تحريض وتحذير إسرائيلية متواصلة، حيث أقرّ جيش الاحتلال علنًا باستهدافه. وكان أنس من القلائل الذين تمسكوا بالبقاء في شمال القطاع لتوثيق تفاصيل العدوان، خاصة في ظل حرب التجويع الممنهجة والقصف المتواصل الذي حوّل غزة إلى منطقة منكوبة.
في وصيته، أوصى أنس بفلسطين، واصفًا إياها بـ”دُرّة تاج المسلمين ونبض قلب كل حر”، ودعا إلى الوفاء لأهلها، وخاصة الأطفال الذين “لم يُمهلهم العمر للحلم ولا للعيش في أمان بعدما مزّقت أجسادهم القنابل والصواريخ”. لم ينسَ في كلماته الأخيرة عائلته الصغيرة، فكتب إلى ابنته شام، التي حلم أن يراها تكبر، وإلى ابنه صلاح، الذي تمنى أن يكون له سندًا في حياته، كما ذكر والدته التي كانت دعواتها “نورًا في قلب العتمة”، وزوجته التي وصفها بثبات الزيتون وصبره.
واختتم الشريف وصيته بجملة تلخّص مسيرته: “أمضي على العهد دون تغيير أو تبديل، وأدعو أن يكون دمي نورًا يضيء درب الحرية لشعبي”.
نُشرت الوصية بعد ساعات قليلة من الغارة الإسرائيلية على خيمة الصحفيين قرب مجمّع الشفاء الطبي، والتي أسفرت عن استشهاد أنس الشريف، محمد قريقع، وثلاثة مصورين آخرين، في واحدة من أكثر الهجمات دموية ضد الطواقم الإعلامية منذ بداية العدوان.
وسارعت الفصائل الفلسطينية، وعلى رأسها حركتا حماس والجهاد الإسلامي، إلى نعي الشهيدين، معتبرةً أن استهداف الصحفيين جريمة حرب مقصودة تهدف إلى ترهيب الإعلاميين وتهيئة الطريق لارتكاب مجازر جديدة، في ظل صمت دولي مريب.
وكانت المقرّرة الأممية الخاصة بحرية التعبير، إيرين خان، قد حذّرت قبل أيام فقط من التهديدات الإسرائيلية المتزايدة ضد أنس الشريف، مشيرة إلى أنّ حياته في خطر حقيقي. ويُذكر أن إسرائيل اغتالت خلال الأشهر الماضية عددًا من صحفيي قناة الجزيرة، من بينهم إسماعيل الغول وحسام شبات، في إطار استهداف ممنهج لكل من يوثق الجرائم بالصوت والصورة.

