في سهرة خُصصت للصوت الذي يشبه الذاكرة، اعتلى الفنان التونسي لطفي بوشناق ركح مسرح الهواء الطلق بالحمامات مساء الخميس 31 جويلية 2025، ليقدّم عرضًا من العيار الثقيل ضمن فعاليات الدورة 59 لمهرجان الحمامات الدولي. منذ اللحظات الأولى للحفل، بدا واضحًا أن الجمهور الذي حضر بكثافة لم يأتِ فقط لسماع الموسيقى، بل ليعيش حالة فنية استثنائية مع صوت خبرته المسارح العربية منذ أكثر من خمسة عقود. أطلّ بوشناق بلباسه التونسي التقليدي، حاملاً عوده كعادته، متقدّمًا فرقته الموسيقية بثقة العارف، وانطلق في عرض تماهى فيه الغناء بالعزف، والتقنية بالإحساس، ليؤكد مجددًا أن حضوره ليس مجرد أداء، بل فعل فنيّ حيّ ينبض بالحرف والنغمة والموقف.
افتتح السهرة بوصلة موسيقية حملت طابع التمهيد العاطفي، ثم انتقل بانسيابية إلى أداء مجموعة من أشهر أغانيه التي ظلت عالقة في وجدان التونسيين، على غرار “حبيتك وتمنيتك” و”أنا حبيت وتحبيت”، اللتين ردّدهما الجمهور كمن يستعيد لحظات عمر لا تُنسى. بوشناق لم يُفلت لحظة دون أن يمنحها نغمة أو روحًا، فقدّم كذلك الأغنية الوطنية “أحنا الجود”، مُحمّلةً برسائل الوفاء والانتماء، ثم تابع العرض بأغانٍ مثل “كل ما فيك حبيبي” و”يا ساكنة الفوق”، لترتفع حرارة المسرح أكثر مع أغنية “العين اللي ما تشوفكشي”، التي انفجر معها التفاعل الجماهيري في مشهد أشبه بالاحتفال الجماعي بالذاكرة.
تنوّع العرض بين الطرب الأصيل والفن الشعبي، وامتد لأكثر من ساعتين من الأداء المتواصل، تحوّل خلالهما الحضور إلى كورال شعبي ردّد بصوت واحد أغاني مثل “هاذي غناية ليهم” و”تبدأ الحكاية”، وكأن كل من في المدارج كان جزءًا من هذا العرض الذي تجاوز حدود التسلية، إلى مصاف التجربة الوجدانية. ولم يكن ختام الحفل عاديًا، فقد اختار بوشناق أن يُنهي العرض بأغنية “يا نوار اللوز”، التي ربطها الجمهور بجينيريك مسلسل “نوبة/عشاق الدنيا” بإخراج عبد الحميد بوشناق، ثم غنّى “يا للا وينك”، تلك الأغنية التي تحتفي بالمرأة التونسية، وتجمع بين الجمال الشكلي والعمق المعنوي، في مزيج فني يُجسّد الوعي الثقافي والانتماء الحضاري.
في لقائه الإعلامي بعد العرض، عبّر بوشناق عن حرصه على تقديم عرض يحترم أذواق مختلف الفئات العمرية، ويجمع بين أعماله القديمة والجديدة دون الوقوع في التكرار، مُبيّنًا أن الفن الأصيل لا يُقاس بالكمّ، بل بالرسالة. وهذا ما جسّده بوضوح خلال السهرة، حيث قدّم عرضًا متوازنًا، غنيًا بالمضامين الموسيقية والإنسانية، يُخاطب فيه الجمهور من الداخل، بعيدًا عن الصخب والاستسهال. لطفي بوشناق لم يكن مجرد مطرب على الركح، بل كان صوتًا ينقل وجع الإنسان، وحنينه، وموقفه. ولم ينسَ في هذا السياق أن يجدّد، من خلال حضوره الفني، مواقفه المبدئية، وعلى رأسها دعمه اللامشروط للقضية الفلسطينية، التي لطالما تغنّى بها في أعماله، وجعلها بوصلة لفنه والتزامه، ليؤكد مرة أخرى أن الصوت، حين يكون حرًّا، يصبح أقوى من الرصاص.
هكذا، قدّم لطفي بوشناق واحدة من أجمل سهرات مهرجان الحمامات، ليست فقط لأنها امتلأت بالأغاني، بل لأنها امتلأت بالحياة. وما تزال ليالي المهرجان تواصل لقاءها مع الكبار، حيث يلتقي جمهور الحمامات في سهرة الجمعة 1 أوت 2025 مع الفنان غازي العيادي في عرض خاص بعنوان “حبيت زماني”، احتفاءً بمسيرة موسيقية تركت بصمتها على أصوات عربية كبيرة، وأثّثت ذاكرة المستمع التونسي لسنوات طويلة.
new media tv
رابط التغطية

