شدّد رئيس الجمهورية قيس سعيّد، خلال استقباله رئيسة الحكومة سارة الزعفراني الزنزري، مساء الجمعة 8 أوت 2025، بقصر قرطاج، على أنّ هناك ملفات يجب أن تُفتح دون تأجيل، لأن الشعب التونسي لم يعد يقبل المراوغة أو طمس الحقائق، ومن حقّه المشروع أن يطالب بمحاسبة عادلة تسترجع له أمواله وتردّ إليه ثقته في مؤسسات الدولة.
هذا التصريح جاء في لحظة سياسية دقيقة، وسط تصاعد وتيرة الحديث الشعبي عن المحاسبة، والتساؤلات المتكررة حول مصير الملفات العالقة التي لم تُفعل بعد، رغم ما تحمله من شبهات فساد مالي وإداري تمسّ من مقدّرات الدولة. وأكد رئيس الجمهورية أن العمل جارٍ من أجل بلورة حل وطني شامل لكل القطاعات، يقوم على التأسيس لمنظومة جديدة نظيفة، وبناء دولة قوية بمؤسساتها، لا تهتز أمام الضغوط، ولا تتصدّع تحت وطأة التحالفات المشبوهة أو بقايا المنظومة القديمة.
وأضاف أن تونس اليوم لا تحتمل مزيدًا من العبث أو التسويات الزائفة، وأن معاول الفساد لن تُترك تعبث بما تبقى من الدولة، بل ستكون هناك محاسبة حقيقية تطال كل من خان الأمانة، أو استغل منصبه، أو تورّط في تقويض أسس الدولة باسم النضال أو الوطنية.
واستحضر سعيّد في حديثه تضحيات عدد من الزعماء النقابيين الذين نذروا أنفسهم للصالح العام، مذكّرًا بالزعيم الطاهر الحداد الذي ميّز في فكره بين الشرعية المغشوشة التي تُفرض من أعلى، والمشروعية الشعبية التي تتجلى في القانون عندما يكون معبّرًا عن الإرادة العامة. وفي هذا السياق، نقل رئيس الدولة مقولة الحداد: “سنستمر في هذا النضال بكل عزم وإرادة ثابتة، فليكذب الكاذبون، فإننا نمرّ مرور الكرام ساخرين من غوغائهم الفارغة حتى ينجلي صبح اليقين، فنظهر كما نحن أبرارًا صادقين، عابدين لخدمة الإنسانية المعذبة بأيدي المستعمرين، ولتعلمن نبأه بعد حين”.
كما استهلّ رئيس الجمهورية اللقاء باستذكار مقال نُشر في جريدة الشعب يوم 13 جانفي 1978 بعنوان “الكرنفال”، كتبه الصحفي محمد قلبي، والذي اعتُقل لاحقًا بسبب ما كتبه، وتعرض للتهديد بالإقصاء من الحزب الحاكم في تلك الفترة. وعلّق سعيّد بأن بقايا ذلك الحزب ما تزال قائمة اليوم، وإن غيّرت أسماءها وتلونت بمسميات جديدة. وأردف قائلاً: “لو كان محمد قلبي على قيد الحياة اليوم، لكتب مقاله في الاتجاه المعاكس تمامًا، وهو القائل: لا أكاد أصدق كل هذا النفاق، ولا أكاد أصدق أن بعضهم ما زال يجهل إلى حد الساعة أن الشعب فاق”.
ووسط هذا الخطاب الذي جمع بين استدعاء التاريخ والواقع السياسي، بدا واضحًا أن رئيس الجمهورية يبعث برسائل مشفّرة وواضحة في آن، مفادها أن مسار المحاسبة لن يُغلق، وأن الأصوات التي تطالب بالعدالة لن تُقمع، لأن الزمن تغيّر، والشعب لم يعد كما كان. فالمستقبل، في نظر سعيّد، لا يمكن أن يُبنى على رمال الماضي، بل يجب أن يقوم على كشف الحقيقة، وردّ الحقوق، ومحاسبة كل من تواطأ أو تستر أو استفاد من الفساد مهما كانت صفته أو ماضيه.

